دلَّت الاكتشافات الأثرية على أن الكتابة كانت موجودةً في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد (حوالي العام 3500 ق. م.) على الأقل. وحين بُدء بكتابة العهد القديم، كان فن الكتابة والفنون الأدبية المختلفة، عند شعوب الشرق الأدنى وبني إسرائيل، متطوِّرةً جداً، وهذا ما ظهر في ما تمّ تدوينه في الكتاب المُقدَّس.
أوحى الله بأسفار العهد القديم إلى أنبياءَ من بني إسرائيل، فكتبه هؤلاء بالأساليب الأدبية التي كانت شائعةً وسط بني إسرائيل والشعوب المحيطة بهم. فدوَّنوا التاريخ في حكاية تعاملات الله معهم، وهو ما يُرى في أجزاء كبيرة من أسفار التكوين إلى أستير. وكتبوا الشعر للتعبير عن أحاسيس الله وأحساسيهم الروحية (كما في سفر المزامير). وكتبوا الحكمة بلغة نثرية وشعرية، كما يُرى في سفري الامثال والجامعة. وقدَّموا ملحمةً وصفت مأساةً إنسانية انتهت بالانتصار، في سفر أيوب. وبالنبوة خاطبوا ظروفهم القائمة وما ستكون عليه.
أما في العهد الجديد، فقد اتبع الرسول أسلوب السِّيَر الحياتية في تدوين الأناجيل، مع أن هذه السِّيَر كانت لا تروي تاريخاً فقط، بل كانت بالدرجة الأولى تهدف إلى التعريف بالمسيح لقيادة القرّاء إلى الإيمان به. وظهر أسلوب التاريخ في تدوين سفر الأعمال لحكاية قصّة تأسيس كنيسة أورشليم والعديد من كنائس العالم الروماني، ولإظهار سلميّة الرسالة المسيحية وحيادها السياسي. وعمد الرسل إلى استخدام الرسائل للتواصل مع الكنائس الناشئة. وبالنبوة في سفر الرؤيا كلّم الله كنائس في أسيا الصغرى ليشجِّعها في معاناتها، ويحفِّزها في رخاوتها، ولينبئ مُخبِراً بما ينوي عمله في المستقبل القريب والمستقبل الأبعد ونهاية الدهر الحالي على أرضنا في شكلها الحالي.
وقد كُتِب الكتاب المُقدَّس بثلاث لغات: العبرية والآرامية (العهد القديم) واليونانية (العهد الجديد).
عاش إبراهيم، أبو شعب إسرائيل، في جنوب بلاد الرافدين ثم انتقل إلى أقصى شمال بلاد الرافدين. ولذا يُتوقَّع أنّه تكلَّم اللغة الأكديّة الكلدانية (في الجنوب) واللغة الآرامية (في الشمال). ولكن حين جاء إلى أرض كنعان، بدأ هو ونسله شيئاً فشيئاً بتبنّي اللغة السائدة هناك. وهكذا، حين خرج بنو إسرائيل من أرض كنعان إلى مصر مع أبيهم يعقوب (حفيد إبراهيم)، كانوا يتكلَّمون شكلاً من أشكال اللغة الكنعانية، وهو ما عُرِف باسم اللغة العبرية. ولهذا، كانت اللغة العبرية لغة بني إسرائيل التي كُتِب بها معظم أسفار العهد القديم. وليس غريباً طبعاً أن نجد كلماتٍ أكدية وآرامية ومصرية وفارسية ويونانية (وربما عربية قديمة أيضاً) في هذه الأسفار، خاصّة في شكل تعابير اصطلاحية أو تسميات أشياء مُعيَّنة مصدرها شعوب تلك اللغات. كتب أنبياء بني إسرائيل العهد القديم بهذه اللغة بدءاً بالعام 1446 ق. م. تقريباً، وحتى نهايات القرن الخامس قبل الميلاد. وقد امتازت اللغة العبرية بقدرتها العالية على التعبير عن الوجدان والخيال العاطفي، فكانت أداةً مثالية في التعبير عن فكر الله الممتلئ بالعواطف والأشواق إلى الإنسان.
وفي الفترة ما بين 606 ق. م. و330 ق. م. تقريباً، كان شعب إسرائيل تحتَ حكم ممالك بلاد الرافدين (بابل الكلدانية) ومن ثمّ الفرس (الذين حكموا بلاد الرافدين أيضاً). وكانت لغة التواصل في هذه الفترة في منطقة الشرق الأدنى هي اللغة الآرامية، التي عرفها بنو إسرائيل وصارت لغتهم المحكية في هذه الفترة. وقد كُتِبت أجزاء من سفر عزرا (4: 8-6: 18؛ 7: 12-26) وسفر دانيال (2: 4ب-7: 28) باللغة الآرامية. يبدو أن هذه الأجزاء لم تكن تستهدف بني إسرائيل فقط، بل والشعوب الأخرى أيضاً والحكومات التي سادت في تلك الفترة.
ومع بدء فتوحات الإسكندر المقدوني وانتهاء حكم الفرس للشرق الأدنى في الفترة 334-323 ق. م. ، انتشرتْ اللغة اليونانية في كل البلاد المفتوحة، فصارت لغة التخاطب إلى جانب الآرامية في هذه المنطقة وغيرها. وتبنَّت شريحة من بني إسرائيل هذه اللغة، وتُرجِم العهد القديم إليها (الترجمة السبعينية وغيرها). وحين فرضت روما حكمها على سوريا الكبرى، بما فيها فلسطين (في الفترة ما 66-63 ق. م.)، كان الرومان قد تبنّوا اللغة اليونانية لغةً ثانيةً (إلى جانب اللاتينية التي كانت تسود غرب أوروبا)، ولكنّها بقيت لغة التخاطب العالمي خاصّة في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية. وكانت اللغة اليونانية المنتشرة لغة فرضت ظروف اختلاط الشعوب تبسيطها، فصارت تُعرَف باسم “اليونانية الشائعة” (الكوينه). وقد كانت اللغة اليونانية لغة الفلاسفة والمناطقة والأطباء والعلماء اليونانيين، ولذا اتّصفت بقدرتها على التعبير عن الأفكار والعقائد المنظَّمة، وهو ما سُرّ الله بعمله في عرضه لحقيقة مَن هو يسوع المسيح وفدائه وتبريره.
وبحكم ما تلقّاه كُتّاب العهد الجديد من علم وتثقُّف، وبسبب اختلاطهم الكثيف باليونانيين، أتقنوا اللغة اليونانية وكتبوا بها أسفارهم بغية إيصال رسالتهم إلى الشعوب التي كانت تتكلَّم هذه اللغة. فكتب متى بلغة يونانية ممتازة متأثرةً بتركيبات اللغة السامية. وكتب بولس بلغة يونانية جيّدة وعملية. واقتراب لوقا من اللغة اليونانية العلمية والكلاسيكية (إذ كان يخاطب مسؤولاً رومانياً يبدو أنّه كان عالي الثقافة). أما يوحنا فكتب بلغة بسيطة أوصلت أعمق التعاليم والصور. وفي كل هذا، كان هدفهم إيصال أخبار يسوع المسيح السّارّة.
كتب أنبياء العهد القديم بلغتيهم العبرية والآرامية، وكتب رسل العهد الجديد باللغة السائدة في زمنهم، أي اليونانية، ولكنّ في كل هذا كان الله وراء كل ما كتبوا، ولذا حفظه في صورة وصيغة أنقى بما لا يُقاس من كل الكتابات القديمة التي تمّ اكتشافها، وهو ما سنتحدَّث عنه في المقالين التاليين.