فهم الكتاب المُقدَّس

يختلف الكتاب المُقدَّس عن كلّ الكتب الأخرى في كون نصوصه ذات مصدر إلهي وفي الوقت نفسه مكتوبة بأيدٍ بشرية. وليس من كتابٍ آخر يشابهه أو يدّعي هذه الطبيعة المزدوجة. فقد نجد كتاباً يدّعي أنّه معطى من الله، ولكنّه لا يدّعي في الوقت نفسه أنّه بشريّ أيضاً. بينما تجد كتباً كثيرة كتبها بشر ولا يدّعون أيّ عنصرٍ إلهي لها أو فيها.

وهذه الطبيعة المزدوجة للكتاب المُقدَّس تجعله فريداً ليس في مصدره فقط، بل وفي الطريقة التي علينا مقاربته بها لفهمه، حيث ينبغي أن نأخذ ناحيتيه البشرية والإلهية في الاعتبار. وسنبدأ بالنظر إلى الناحية الأولى.

كُتِب الكتاب المُقدَّس بلغاتٍ بشرية كانت شعوبٌ عديدة تتكلَّم بها في ذلك الوقت. ولذا، ينبغي قراءة الكتاب المُقدَّس ضمن هذا الإطار. فعلينا أن نعرف، بل أن نجيد، اللغات التي كُتِبت بها نصوصه حتى نتمكَّن من فهمها. وقد يجد القارئ العادي مثل هذا الكلام صعباً، بل يقترب من كونه مستحيلاً. ولذا، نستطيع الاعتماد على ترجمات الكتاب المُقدَّس في اللغات العديدة. واضعو هذه الترجمات أشخاص يجيدون لغات الكتاب المُقدَّس الأصليّة، وقد سعوا إلى نقل نصوصه بأفضل درجةٍ ممكنة. بعض هذه الترجمات حرفية، بحيث تكاد تنقل النصوص الكتابية من لغاتها الأصلية كلمة بكلمة، بينما بعضها الآخر يميل إلى تبنّي أسلوبٍ لغويّ يسهِّل على القارئ فهم النصوص الكتابية. وهكذا، إن كنتَ لا تعرف اللغات الأصلية التي كُتِب بها الكتاب المُقدَّس، فإنّه يمكنك الركون إلى ترجمات الكتاب المُقدَّس المتعدِّدة (وربمّا في لغاتٍ متعدِّدة).

ولكنّ معرفة اللغة البشرية التي كُتِب بها الكتاب المُقدَّس، أو ترجماته، ليس الأمر الوحيد الذي تحتاج إليه لفهم الكتاب المُقدَّس. فينبغي كذلك فهم السياق النصّي والسياق التاريخي للمقاطع الكتابية. فالكثير من الكلمات والجمَل والفقرات يمكن أن يساء فهمها إن قرأناها بمعزلٍ عمّا يحيط بها من نصوص. فإنْ أردنا فهم المقصود في آية أو فقرة، فينبغي أن نقرأ ما قبلها وما بعدها، وربّما علينا أن نقرأ كامل السفر الذي ترد فيه تلك الفقرة.

وبالإضافة إلى ضرورة فهم السياق النصّي نحتاج إلى أن نفهم السياق التاريخي أيضاً. في كثيرٍ من الأحيان يوفِّر الكتاب المُقدَّس نفسه السّياق التاريخي لكثيرٍ من نصوصه ومقاطعه. فمثلاً، يشكِّل سفر الأعمال خلفيّةً تاريخيّة للكثير من رسائل بولس. وأسفار الملوك والأخبار ونحميا وعزرا تعطينا خلفيةَ الأسفار النبوية. وتؤمِّن الكثير من الأسفار الأخرى الخلفية التاريخية لمقاطعها، كما نرى في أسفار موسى الخمسة والأناجيل.

ومع هذا، فإنّنا في أحيانٍ كثيرة نحتاج إلى فهم السياق التاريخي من خارج الكتاب المُقدَّس، وهو ما قد يتطلَّب جهداً إضافياً بالرجوع إلى الكتب المرجعيّة والتاريخيّة.

وقد أسمعك هنا تقول إن هذه العملية تتطلَّب جهداً كبيراً قد يعسر عليك. في الحقيقة أتفق معك جزئياً، فالأمر صعب في بعض الأحيان، ولكنْ لا في كلها. ولكنّه يتطلَّب في الدرجة الأولى رغبةً جادةً بفهم الكتاب المُقدَّس، والفائدة التي يتمّ تحصيلها عظيمةٌ جداً. وحين تمارس الدراسة الجادة ستصير عادةً وطبيعةً فيك، مما سيسهِّل المهمة ويضفي إليها متعةً.

والناحية الأخرى التي ينبغي وضعها في الاعتبار لفهم الكتاب المُقدَّس حقيقة الطبيعة الإلهية للكتاب المُقدَّس.

يقول الرسول بولس عن الكتاب المُقدَّس: “كل الكتاب هو موحى به من الله …” (2تيموثاوس 3: 16). وعبارة “موحى به من الله” ترجمة لكلمة يونانية واحدة مركّبة تنقل صورة مفادها أن الكتاب المُقدَّس هو نفَس الله. أي كأنّه يخرج من صدره. فحين نقرأ كلمات الكتاب المُقدَّس المكتوبة بلغة بشرية، فنحنُ في الحقيقة نسمع ما في قلب الله وفكره. إنّنا نقرأ كلمات الله. (وسنعالج موضوع وحي الكتاب المُقدَّس في مقالنا التالي.)

وحقيقة الطبيعة الإلهية للكتاب المُقدَّس تفرض علينا مقاربته بطريقة مختلفة عن أيّ كتاب آخر، رغم طبيعته البشرية.

أولاً، تفرض حقيقة إلهية الكتاب المُقدَّس علينا أن نتقدَّم إلى الكتاب المُقدَّس بموقف المهابة والاحترام.

ثانياً، تستحثّ حقيقة إلهية الكتاب المُقدَّس فينا الاجتهاد لفهم ما يقوله الكتاب المُقدَّس، حتّى حين تكون هناك تناقضات ظاهرية بين مقاطعه. فكثيراً ما تخفى علينا الأمور.

ثالثاً، تؤكِّد حقيقة إلهية الكتاب المُقدَّس لنا اهتمام الله بأن يتواصل معنا. هذا يدفعنا إلى الصلاة إليه بكل رغبة وتواضع بأن يعيننا في فهم الكتاب المُقدَّس. وفي النهاية، يبقى السؤال المهم: هل نريد أن نفهم ما نقرأه في كلمة الله؟ إن كان الردّ بالإيجاب، فعلينا أن نجتهد في قراءتنا ودراستنا متّكلين على الرب الذي يرغب بأن نفهم كلمته.