كتاب قديم حديث

يُخبِرنا المؤرّخون أن البشر عرفوا الكتابة قبل حوالي 5500 سنة، ويبدو أن شعوب جنوب بلاد الرافدين كانوا أوَّل من مارسوا هذا الشكل الحضاري. ومنذُ ذلك الحين، والبشر يدوِّنون أفكارهم وقِصَص أخبارهم واتفاقياتهم وعقودهم

كتب الأوائل على الجدران الصخرية باستخدام الصور التعبيرية، ثم استخدموا نوعاً من الألواح الطينية وإزميلاً خاصّاً ليكتبوا بما يُعرَف بالخط الإسفيني أو المسماري. ثمَّ تطوَّرت الكتابة أكثر في طرقها وأشكالها عبر جسر الأبجديات إلى ما وصلت إليه في يومنا هذا. ولدينا اليوم نصوصٌ كاملةٌ أو ناقصة لنصوص قديمة جداً حفظ لنا الزمن جزءاً منها، بينما محا بتقلُّباته جزءاً أكبر بما لا يُقاس، حتّى إنَّ ما لدينا اليوم ليس سوى بقايا قليلة ممّا تركته الأزمنة البعيدة

ولكن هذا لا ينطبق على الكتاب المُقدَّس. فمنذُ بدء تدوينه في منتصف القرن الخامس عشر قبل المسيح، وحتّى نهاية تدوينه في القرن الميلادي الأول، سعى متلقّوه إلى الحفاظ عليه بكل اجتهاد وإتقان وتضحية

التقى راعي غنمٍ فارّ من مصر اسمه موسى باللـه في جبلٍ في صحراء العربية، ومنذُ ذلك الحين وهو يدوِّن أقوال اللـه وأحداث لقاءاته معه ومساعيه في خدمته. ويُخبِرنا الكتاب المُقدَّس بأنّه “كتب موسى هذه التوراة وسلَّمها للكهنة بني لاوي ولجميع شيوخ إسرائيل” (تثنية 31: 19)، وصار هذا ما عمله كلُّ كتبة الوحي من بعد موسى وحتّى آخر العهد الجديد، حيث كانت كتاباتهم تُكتَب وتسلَّم إلى يد ممثِّلي الشعب. ولرؤية هذا الأمر، انظر يشوع 24: 26؛ إشعياء 8: 16؛ إرميا 36: 27-28؛ لوقا 1: 1-4؛ أعمال الرسل 1: 1-2؛ 2بطرس 3: 16، وغيرها من المقاطع الكتابية. وبسبب هذا يختلف الكتاب المُقدَّس عن كل ما عداه من الكتابات القديمة في السعي الحثيث إلى حفظه. فليس من كتابٍ قديم له ما للكتاب المُقدَّس من مخطوطات، وليس من كتابٍ عبر التاريخ تُرجِم إلى عدد اللغات التي تُرجِم إليها. 

وهو كتابٌ اللـه وراء وجوده. ففي بعض الأحيان دوِّنت كلماتٌ قالها اللـه بصورة حرفيّة، كما هو الحال مع الوصايا العشر (خروج 20: 1-17)، وفي أحيانٍ أخرى كتَب كُتّاب الكتاب المُقدَّس تجاربهم الحياتيّة مع اللـه. وفي جميع الأحوال، أكَّد كُتّابه على حقيقة كون اللـه مصدر هذا الكتاب المُقدَّس. قال الرسول بولس: “كلُّ الكتاب هو موحى به من اللـه” (2تيموثاوس 3: 16). وقال الرسول بطرس: “عالمين هذا أوّلاً أنَّ كلَّ نبوّة الكتاب ليست من تفسيرٍ خاصّ” (2بطرس 1: 20)

ولكنّه كتابٌ يتضمَّن ناحيةً بشريّة أيضاً، شارك في كتابته حوالي الأربعين كاتباً. فقد كُتِب بأساليب أدبية كانت مُستخدمة في زمنهم ضمن سياقاتهم الحياتيّة. ولهذا، تجد الشاعر يكتب كلمة اللـه بأسلوبٍ شعريّ (مثل سفر المزامير)، والمؤرِّخ يبحث ويتحقَّق بشأن الأحداث تحتَ إرشاد اللـه (مثل إنجيل لوقا وسفر الأعمال)، والمفكِّر الفيلسوف يعرض حواراته وملاحظاته الحياتية للوصول إلى خلاصةٍ تقود إلى اللـه والتقوى (مثل سفر الأمثال وسفر الجامعة)، والمعلِّم قد يقدِّم تعليمه في بحث يضمِّنه رسالةً (مثل رسالة رومية ورسالة العبرانيين)

يتطلَّب فهم النصوص القديمة كلها أن نأخذ السياقَين الأدبي والحضاري في الاعتبار، إذ الكلمات والجمل والمفاهيم تتلوَّن بهذَين السياقَين. وهذا ينطبق على الكتاب المُقدَّس أيضاً.

ورغم أن الكتاب المُقدَّس كتابٌ قديم، كُتِب في سياق قديم، فإنّ تأثيره تجاوز ويتجاوز الذين تلقّوا أسفاره المختلفة في البداية. فهو كتاب أثَّر عبر آلاف السنين على كل مَن قرأوه، حتى وإن رفضوا حقيقة مصدره الإلهي، وذلك يعود إلى حقيقة كونه كتاباً حيّاً لا يشيخ ولا يصير قديماً، بل يعمل في كل قارئٍ جادٍّ له، وفي أحيانٍ كثيرة حتّى في غير الجادّين. وهذا ما يؤكِّده القول القديم

“ثمة خطر عظيم لأعظم قدّيس إن أهمل قراءة الكتاب المُقدَّس

ويوجد أعظم رجاء لأعظم خاطئ إن داوم على قراءة الكتاب المُقدَّس